من أرشيف الذاكرة .. عندما ظن الناس أنني مجنون
يمنات
أحمد سيف حاشد
– عندما أشاهد مجنونا تتهلل أساريري، وكأنها منتجع سياحي بشاطئ عريض يستقبل سائحيه في صباح يوم بهي.. يبتهج محياي حتى يكاد يضيء، وأبدو في دهشتي كأنني في حضرة احتفال عيد هندوسي عظيم.. أشعر بغبطة وسعادة غامرة تكتسح آمادي.. أبدو في حال أشبه بمن يعثر على كنزٍ لطالما تمناه، وقضى سنين من العمر باحثا عنه، ووجده بعد إغلاق، كان مُحكما باليأس المنيع..
– أشرار وفاسدوا بلادنا يكتنزون الذهب والعملات والأرصدة في البنوك والمدافن، فيما أنا كنزي الذي لا يضاهى هو مجنون وقضية.. أحاول أن أسبر أغواره ومجاهله، وأكشف نظرته للحياة، وأحثه وأشجعه على البوح، وأنقل ذلك البوح للناس عامة وخاصة.
– أسأل عن معاناته وأوجاعه.. أغالب معوقات جمة محاولا الاجتياز والوصول إلى أعماقه.. أبحث عنه في تيهه وضياعه وغيابه.. أقدم ما استطعت من قصته الحزينة للناس.. أنحاز إليه وإلى قضاياه المغيبة من السلطة والمجتمع.. أخذ بيده من الهامش إلى الواجهة.. أنشر جواهر من كلامه بالبنط العريض، وأنشر صورته في واجهة الصفحة الأولى.. إنني افعلها مع المجانين، وأحجم أو أتردد عن فعلها مع اساتذة الجامعة..
– أنشر للناس ما ظفرت به من بوحه الحزين، ومأساته العريضة، وتهكمه الساخر، وسخريته من الحياة والناس والسلطات.. أنشر أوجاعه ومعاناته المهملة التي لا يلتفت إليها المجتمع، وأعيد تقديمه مرة أخرى على نحو حقيقي ومغاير عمّا هو راسخ في الأذهان، سلطة ومجتمع، بعيدا عن الازدراء وسوء الفهم المعمم، والتعالي المملوء بالخواء والفراغ والغفلة..
– قبل أن تبلغ الساعة العاشرة صباحا في إحدى أيام شهر إبريل 2005 مررت على البنك العربي في شارع الزبيري، لاتجه بعدها إلى مجلس النواب.. ولكن ما أن شاهدته، كان له الأولوية على ما عداه.. أنقطع طريقي، وتحوّل ممشاي واتجاهي نحوه.. شاهدته مُتّكي على حجر، ومسنودا ظهره للجدار.. يمضغ وريقات “القات” من الصباح.. معطوب الشعر، ورث الملابس.. ممزق النفس والوجدان.. شاردا في التيه ومُحلّقا في مدارات جنونه..
– الناس تمر من أمامه، ولا تلتفت إليه، وهو أيضا معتز بنفسه ولا يبالي بهم، يرمقهم بنصف عين، ولا يكترث ولا يهتم بأحد منهم.. يحلّق في فضاء عزلته وعالمه الخاص.. كعادته يمضغ “القات” باكرا.. ربما في ذلك الصباح كنت على غير عادة الناس.. كنتُ الغريب الذي قطع شروده.. استبشرت به، وهممت بأمره، وولجت معه في الحديث، سائلا عن أحواله، وبعض تفاصيل همومه..
– بدا حذرا ثم أطمئن، ومع ذلك كان مقلا بالكلام، ويجمع الكلم ما أستطاع.. طيب القلب وكريم الطباع.. يواجه شعور الضياع باللامبالاة وعدم الاكتراث..
حاولت أن أشاركه غربته، أو على الأقل أتفهمها دون عتاب أو لوم أو تعالي..
– استهلت حديثي معه بطلب التحدث خمس دقائق، غير أنه صدني في البداية على نحو غير متوقع.. وكان رده قاسيا: “اكلم نفسي مع الشيطان أحسن من بني آدم”.. عزلة عن المجموع، وصد غير رحيم، وغربة عن مجتمع لا يقرأه ولا يتفهمه..
– حاولت تطمينه وأقناعه بأجراء الحوار، فأقتنع بعد جهد، ولكنه شُرغ بالقات قبل أن نبلغ وسط الحوار أو أوجه.. قطع الحوار، ثم غادر المكان باتجاه “باب البلقة”، سالكا شارع الزبيري المزدحم بالناس والسيارات.. فيما أنا أهرع بعده، وأنجح في اللحاق به، والسير بمحاذاته، محاولا استكمال الحوار..
– كنت يومها مهندما.. لابسا كوتا وقميصا وبنطلونا، وربطة عنق.. وفي يدي حقيبة.. إجمالا كنت أنيقا.. أحاول سؤاله وهو يحث الخطى سريعا، وأنا أجاريه، وأمد المسجلة إلى أمام فمه، وأطلب منه الحديث، وأترجّاه ليجيب على بقية الاسئلة، وألح عليه، وكأن عقوبة ما تنتظرني إن لم أكمل الحوار، فيما هو يمضي في طريقه غير مبالي، ويستمر برده اللحوح “إنا السياسة لا تعجبني”..
– كان منظرنا في الشارع لافتا ومثيرا للفضول.. بعض المارة كان يتوقف على حافة الرصيف، بمجرد مشاهدتنا، فيغلبه الفضول، وما يلبث أن يحاول اللحاق بنا، ونحن نسير في المقدمة كموكب فخيم..
– أحتشد الناس بعدنا صغار وكبار، يقتفوا سيرنا، ولعلهم يضحكون بكتمان، ويعلقون ويلقون السخرية والنكات بصوت خفيض، دون علمنا.. فيما كنتُ منهمكا في ترجّي لحوح، محاولا اقناعه على اكمال الحوار، ولو في شأن ليس خارج إطار السياسة فقط، بل خارج موضوع الأرض إن أراد..
– كنت أسير على يمينه، وهو ينحاز على اليسار متهربا مني، ومن مواصلة الحديث، وأنا أهرع بعده وأميل معه دون فكاك، ولم أدرِ إلا ونحن نسير وسط الشارع، وحشد الناس يزداد وراءنا، والسيارات تكتظ بعد حشدنا، ربما اعتقد بعضهم أن هناك جنازة.. وكانت أبواق السيارات تصيح، وتحاول شق الطريق.. وهناك من يسارع لفهم الأمر، فيتفاجؤون بمنظر غريب وغير معتاد ليس في صنعاء وإنما في اليمن..
– وبرهة رمقت بنظري للوراء، ثم استدرت لأشاهد ما لا أتوقعه.. حشد غفير من الصبية والكبار يتابعون سيرنا، وبعدهم حشد من السيارات الضاجة.. فيما خاطبني أحدهم، كان لابسا نظارة زجاجية شفافة، وفي يده حقيبة سوداء، وقد نال الشيب من رأسه ومفرقه ما نال، داهمني بالسؤال: من هو المجنون منكم؟!! أنت أم هو؟!!
قهقهت، وأنا أحاول أعيد المسجلة إلى حقبتي، ومحاولا الاعتذار وسط ضحك وقهقهة الكثير، وحاولت مباشرة ايقاف سيارة أجرة، تغيبني من عيون الناس، وأنا مملوء بالخجل، وأريد التواري بسرعة، واتجهت صوب مجلس النواب، فيما كان السائق الذي تقلني سيارته يتطلع على وجهي في المرآة، ويسألني عن سبب التجمع باستغراب!! واستغراب أكثر أن تكون وجهتي إلى مجلس النواب..
***
نص الحوار الذي لم يكتمل..
– هل ممكن أتكلم معك خمس دقائق؟
– اكلم نفسي مع الشيطان أحسن من بني آدم..
– قول لي الصدق .. أين أحسن لك العقل أم الجنان؟
– الاثنين
– كيف؟
– إذا حنبتُ بالعقل خارجني الجنان وإذا حنبتُ بالجنان خارجني العقل.
– ماذا تحلم أن تكون في المستقبل؟
– المستقبل !! لا تذكرني بالمستقبل .. اللي ضيعني بالقات هوه المستقبل..
– هل القات يتعبك؟
– اللي اتعبني بني أدم مش القات..
– كم لك تخزن مع الصبح؟
– أربع سنين أو خمس..
– هل سبق أن أجرى أحد معك مقابلة أو حوار؟
– صلحت مقابلة من قبل في مصنع يمن خطاب.
– من أجرى معك المقابلة؟
– المدير .. قال لي جاوب داخل الإدارة .. عملنا مقابلة .. قال لي أي سؤال قول نعم .. لا.. لا.. نعم..
– ما رأيك بالوضع؟
– هات حبة سجارة أقوم أرقص لك..
– أين تنام؟
– بالشارع.
– كيف تعمل بالبرد؟
– يعلم الله..
– كيف تعمل إذا أصابك مرض؟
– اصبر عليه.
– إلى صف كم درست؟
– لا ثلاثة..
– لماذا لم تكمل تعليمك؟
– بسبب المشاكل في البيت..
– أيش من مشاكل؟
– ما نسد.. جنان مرتين .. بطّلت القات والسجارة.. رجعوا علّموك مرة ثانية..
– كم لك من لما جننت؟
– من أذيك اليوم.
– أيش من يوم؟
– لما كنت صاحي جننت.. وصحيت وجننت.
– مش ناوي ترجع البيت حقكم؟
– أنا خلاص خرجت من البيت.. ما سدينا من أول.. والآن ما سدينا.
– مش ناوي تكمل تعليمك؟
– سيبني لحالي الله يرضي عليك.
– ما رأيك بالعولمة؟
– عولمة يمن أو عولمة خارج صنعاء؟!! العولمة تبعنا..
– ليش تلبس زنه بدون جيب؟
– جا بوا لي الزنة هكذا..
– هل تحتاج إلى جيب؟
– أحتاج جيب على شان القات والسجارة .. لكن خلوه بدون جيب.
– من اللي خلاه بدون جيب؟
– أصحاب الخير..
– الجرعة الجديدة سمعت بها؟
– مَع.
– من يعطيك مصاريف؟
– أصحابي القدامى والجداد..
– هل معك أصحاب كثير؟
واحد أو اثنين .. أنا ما يعجبني أصاحب كثير..
– من أعز واحد عندك؟
– ما عنديش.
– ليش ما يعجبك تصاحب كثير؟
– هذه فكرتي .. بطلنا الأصحاب القدامى ورجعنا جديد والجديد رجعنا القديم..
– إذا حصلت وظيفة با تشتغل؟
– الوظائف أخذوها رجال الله ..
– أيش اسمك؟
– عبد الحكيم ناجي حمود مفلح المرحي..
– من أين أنت؟
– من الرضمة.. يريم .. إب.
– ما رأيك بالزواج بالأنترنت؟
– أنا ما أعرف عربي.. أنا حبشي من أديس .. جيت من الحبشة قبل 25 سنة..
– أيش جابك من الجبشة؟
– أهلي..
– هل انت مزوج؟
– مع..
– ليش ما تتزوج؟
– الظروف..
– متى با تتزوج؟
– الله أعلم..
– هل معك أولاد؟
– لا .. خاطرك..
– لحظة.. هل معك حرفه أو كنت تشتغل من أول؟
– أول كنت اشتغل.. أشتغلت في عدة شركات ..شركات مجاري.. شركات سجارة..
– هل تصلي؟
– كنت أصلي وبطلت.
– ليش بطلت؟
– لأن الذي كان يخطب بنا الجمعة يأخرنا كثير.
– متى باتصلي؟
– لما يريد الله.
– هل تصوم؟
– كنت أصوم وبطلت
– ليش بطلت؟
– لأنني كنت أصوم واشرب سيجاره وآكل قات وبعدين منعوني وانا بطلت.
– أيش رأيك بحقوق الإنسان في اليمن؟
– كله كلام في كلام.. على كيفك أنت..
– وحقوقك تحصلها؟
– خلي لي حالي .. ايش تشتي مني بالضبط .. انا شابع..
– شابع حقوق؟
– شابع حياة..
– ما رأيك بالأحزاب؟
– أنا حزب بنفسي..
– ما رأيك بالحكومة؟
– أنا لما أخزن ما اقدر اتكلم .. اختنق .. الواحد لما يعمل مقابلة لا زم يكون بدون قات.
– ليش؟
– اختنق .. معاد اشتيش .. لا أشتي سؤال ولا جواب .. لا تذكرني بشي .. تشتي قات اتفضل خزن .. السياسة ما تعجبني..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.